فصل: مسألة يفيض في آخر أيام التشريق قبل أن تزول الشمس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة أفاض وطاف بالبيت ثم وطئ أهله:

قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول فيمن أفاض وطاف بالبيت ثم وطئ أهله، قبل أن يركع: إنه إن كان بمكة أفاض مرة أخرى فطاف وركع، ثم خرج معتمرا ويهدي، وإن خرج إلى أهله ركع ركعتين حيث كان وأهدى.
قال محمد بن رشد: هذا على أصله فيمن وطئ بعد رمي الجمرة وقبل الإفاضة، أنه يهدي ويعتمر ليأتي بطواف الإفاضة الذي أفسده بالوطء قبله في إحرام صحيح، فلما كان الذي نسي الركعتين من طواف الإفاضة يجب عليه أن يعيد طواف الإفاضة ما كان بمكة أو قريبا منها، كان الذي وطئ قبل أن يعيد الطواف في حكم من وطئ قبل الطواف في وجوب الهدي والعمرة عليه.
وقوله: وإن خرج إلى أهله ركع ركعتين حيث كان، وأهدى هديا، معناه إن لم يذكر ذلك حتى رجع إلى أهله، ولو علم وهو بمكة أو قريب منها أنه وطئ قبل الركعتين فخرج إلى بلده لوجب عليه الرجوع لما وجب عليه من إعادة الإفاضة، ومن العمرة، وهذا على القول بأن من وجب عليه أن يعيد في الوقت، فلم يعد حتى ذهب الوقت أنه يجب عليه أن يعيد بعد الوقت، ولأهل العلم فيمن وطئ قبل الإفاضة وبعد الرمي ثلاثة أقوال؛ أحدها: هذا أنه يعتمر ويهدي. والثاني: أنه يهدي ولا عمرة عليه، وقد ذكر ابن القاسم في الأول من حج المدونة أن هذا هو قول جل الناس. والثالث: أنه قد أفسد حجه، وهو قول عبد الله بن عمر وجماعة من السلف، وظاهر قول عمر بن الخطاب: من رمى الجمرة، فقد حل له ما حرم عليه إلا النساء والطيب، وفي بعض الروايات والصيد، واختلف قول مالك فيمن وطئ بعد الوقوف بعرفة وقبل رمي الجمرة، فالمشهور عنه أنه قد أفسد حجه، وقد روي عنه أن حجه تمام وعليه العمرة والهدي، وأما من وطئ قبل الوقوف بعرفة، فلا خلاف بين أهل العلم في أنه قد أفسد حجه.

.مسألة ترك أهله بمكة من الآفاق وخرج لغزو أو تجارة:

قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول: ليس على من ترك أهله بمكة من الآفاق، وخرج لغزو أو تجارة إذا قدم في أشهر الحج متعة، كما ليس على أهل مكة متعة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، ومعناها أنه قدم مكة قبل أشهر الحج، فترك أهله بها على نية الاستيطان لها، ثم خرج لغزو أو لتجارة، فقدم معتمرا في أشهر الحج، وكذلك لو سكنها بغير أهل قبل أن يتمتع، قاله ابن المواز، فليست هذه المسألة بخلاف لمسألة كتاب الحج الأول من المدونة في الذي يقدم مكة في أشهر الحج معتمرا، ينوي استيطانها؛ لأنه لم يتقدم له استيطانها قبل قدومه معتمرا، فلذلك قال فيها: إنه ليس كأهل مكة؛ إذ لعله سيبدو له فيما نوى، قوله فيها معارض لما في إرخاء الستور من المدونة، وموضع الخلاف بينهما، هل يصدق فيما يدعي أنه أراد من ذلك أم لا؟

.مسألة يلبي بالحج وهو مولى عليه:

وقال مالك في الرجل يلبي بالحج، وهو مولى عليه، والمرأة عند أبيها، أو عند زوجها إن ذلك من السفه، ولا يجاز ذلك، ولا يمضي لمن فعله، وليس على المرأة أن تقضيه إذا هلك زوجها أو أبوها.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أنهم أحرموا من بيوتهم دون الميقات، وقبل أشهر الحج، فلذلك كان للأب والزوج والولي ألا يمضوا فعلهم، وأن يحلوهم من إحرامهم؛ لأن ذلك خطأ منهم وتعد، وقوله: وليس على المرأة أن تمضيه إذا هلك زوجها أو أبوها، مثل ما في المدونة؛ لأن معنى المسألة أنهم أحرموا بحجة الفريضة، فليس عليهم إذا قضوا حجة الفريضة للإحرام الذي حللهم منه شيء، ولو كانوا إنما أحرموا بحج التطوع، وتركوا الفريضة لوجب عليهم قضاء الحجة التي حللوا منها بعد قضاء حجة الفريضة على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، خلاف قول أشهب: إن العبد إذا أحرم بغير إذن سيده، فحلله سيده من إحرامه أنه لا يجب عليه في ذلك قضاء؛ لأنه إنما حله بحجة بعينها، كمن نذر صوما بعينه، فمنعه من صيامه عذر، وقال ابن المواز: إن المولى عليه والمرأة عند أبيها لا يلزمهم قضاء الإحرام الذي حللوا منه، كما لا يلزمهم العتق إذا ولوا أنفسهم، وهذا هو مذهب أشهب الذي ذكرناه.

.مسألة خرج يريد التمتع فألفى الناس قد فرغوا من الحج:

قال مالك: لو أن رجلا خرج يريد التمتع، فألفى الناس قد فرغوا من الحج، لم يقع عليه شيء.
قال محمد بن رشد: قوله يريد التمتع، أي يريد العمرة في أشهر الحج مثل الحج، فإذا أحرم بعمرة أو بحج، فألفى الناس قد فرغوا من الحج، فلا شيء عليه كما قال، إلا إكمال العمرة التي أحرم بها؛ لأنه قد فاته الحج في ذلك العام، وفي بعض الروايات خرج يريد الحج، والصحيح خرج يريد التمتع؛ لأن من خرج يريد الحج، فألفى الناس قد فرغوا من الحج، لا إشكال في أنه لا شيء عليه إن كان لم يحرم، وإن كان قد أحرم، فلابد له من قضاء الحج الفائت، وعليه الهدي.

.مسألة هلك رجل بالفسطاط وأوصى أن يحج عنه:

قلت لابن القاسم: لو هلك رجل بالفسطاط، وأوصى أن يحج عنه، فدفع عنه إلى رجل ليحج عنه، ولم يشترطوا عليه أن يحرم من ذي الحليفة أو غيرها، فخرج فأحرم عن نفسه من ذي الحليفة بعمرة، وحج عن الميت من مكة؟ قال: أراه ضامنا للحجة، أو يرد المال، ولا أبالي اشترطوا عليه الإحرام أو لم يشترطوا؛ لأن من دفع إليه مالا ليحج به عن ميت، فليحرم من ميقات الموضع الذي يحج منه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه ضامن، وإن لم يشترطوا عليه الإحرام من ذي الحليفة، هو القول الذي رجع إليه ابن القاسم في المدونة، وكان أولا يقول: إنه لا ضمان عليه إلا أن يشترط عليه الإحرام من ذي الحليفة، وفي أصل السماع أنه لا ضمان عليه، وإن اشترطوا عليه أن يحرم من ذي الحليفة، ولا حجة للمستأجر عليه في أن قدم بين يدي حجه عمرة، وإن اشترط عليه ألا يفعل وهو بعيد، فهي ثلاثة أقوال؛ أبينها القول الذي رجع إليه ابن القاسم في المدونة، وهو قوله في هذه الرواية، وقوله أراه ضامنا للحجة أو يرد المال ليس معناه أنه مخير في ذلك، وإنما معناه أنه ضامن للحجة إن كان أخذ المال على الإجارة، إذ لم تقع الإجارة على أن يحج عليه في ذلك العام بعينه، وإن قال: استأجرك على أن يحج عنه في هذه العام، فلا يتعين بذلك العام، كمن استأجر سقاء على أن يسوق له اليوم قلة ماء، فإن لم يسقها ذلك اليوم وجب عليه أن يسوقها في اليوم الذي بعده، وإن استأجره على الحج وسكت فهو على أول سنة، فإن لم يحج في أول سنة لزمه أن يحج فيما بعدها، وذهب ابن العطار إلى أن السنة تتعين بذكرها، ولا تصح الإجارة عنده إلا بتعيينها، فقال: عقد الإجارة في ذلك على سنة مسماة لم تأت بعد، على أنه موسع عليه في تعجيلها، فأما قوله: إنها تتعين بذكرها، فقد قيل ذلك أنها تتعين إذا عينت، وهو الذي يدل عليه ما في الحج الثالث من المدونة، وأما ما ذهب إليه من أن الإجارة لا تصح إلا بتعيينها، فليس بصحيح، قد أجاز في سماع أبي زيد من هذا الكتاب الاستئجار على حجة مقاطعة في غير سنة بعينها، وسيأتي الكلام عليها هناك إن شاء الله، وأنه يرد المال إن كان أخذه، على البلاغ؛ لأنه إذا أخذه على البلاغ، فإنما هو رسول لهم لم يضمن الحج، فإذا تعدى فأنفق مالهم في غير ما إذن له فيه، صار ضامنا له، وترتب في ذمته، ومن ترتب في ذمته مال لم يجز أن يصرف في إجارة عند مالك وجميع أصحابه.

.مسألة خرج في مشي عليه فمرض في بعض الطريق:

ومن كتاب القبلة:
مسألة قال ابن القاسم، وسمعت مالكا: قال فيمن خرج في مشي عليه، فمرض في بعض الطريق، فركب يوما أو ليلة، ثم مشى بعد ذلك حتى بلغ، فأرجو أن يجزئ عنه، ويهدي ما استيسر من الهدي، فإن لم يجد صام عشرة أيام.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وغيرها من الدواوين أنه إن كان الذي ركب اليسير الأميال واليوم وشبهه، فليس عليه أن يعيد ثانية، ويجزئ الهدي، وسواء قرب مكانه أو بعد، وقد روى ابن وهب، عن مالك: أنه لا هدي عليه إن بعد مكانه كمصر وشبهها، وأما إن كان كثر ما ركب، ولم يكن جل الطريق، فإنه يرجع ثانية للمشي ما ركب باتفاق في المذهب إن كان موضعه قريبا كالمدينة ونحوها، واختلف إن كان موضعه بعيدا كمصر ونحوها، فقيل: إنه يرجع، قاله في كتاب ابن المواز، وهو ظاهر ما في المدونة في تفسير ابن مزين أنه لا يرجع، وأما إن بعد موضعه جدا كإفريقية والأندلس، فليس عليه أن يرجع ويجزئه الهدي؛ لأن الرجوع ثانية من الأندلس وشبهها من البعد أشق من الرجوع من المدينة ونحوها ثالثة، وأما إن كان الذي ركب جل الطريق فيما قرب، فعليه أن يمشي الطريق كله ثانية، رواه ابن الماجشون عن مالك في المبسوطة، ومثله في كتاب ابن المواز.

.مسألة حق أهل مكة وغيرهم ممن يقدم عليهم من الناس في دور مكة:

ومن كتاب أوله حلف ألا يبيع سلعة سماها:
مسألة وسئل مالك عن تفسير هذه الآية: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25]، أي سواء في الحق والسعة، والباقي في أهل البادية وغيرهم ممن يقدم عليهم، وقد كانت الفساطيط تضرب في الدور، ولقد سمعت أن عمر بن الخطاب كان ينزع أبواب بيوت مكة إذا قدم الحاج.
قال محمد بن رشد: تأويل مالك لهذه الآية على أن حق أهل مكة وغيرهم ممن يقدم عليهم من الناس في دور مكة سواء، واستدلاله على ذلك بما ذكر من فعل عمر بن الخطاب، يدل على أنها لا تباع ولا تكرى خلاف ظاهر قول ابن القاسم في كتاب كراء الدور والأرضين، وكتاب الحوائج من المدونة، لما ذكر من نفاق كراء الدور بها في أيام الموسم، وليس في الآية بيان يدفع القدر؛ لاحتمال رجوع الضمير من قوله: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] على المسجد المذكور دون سائر البلدة؛ على ما قاله جماعة من المفسرين، والأصل في اختلاف أهل العلم في هذه المسألة اختلافهم في افتتاح مكة، فمن ذهب إلى أنها افتتحت عنوة، قال: إن دورها لا تباع ولا تكرى، وهو قول أبي حنيفة وجماعة سواه، ويشهد لهذا القول ما روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مكة كلها مباح، لا تباع رباعها ولا تواجر»، ومن ذهب إلى أنها مؤمنة، والأمان كالصلح، وأن أهلها مالكون لرباعها، أجاز لهم بيعها وكراءها، وهو قول الشافعي، ولا خلاف عند مالك وأصحابه في أنها افتتحت عنوة إلا أنهم اختلفوا هل من على أهلها بها، فلم تقسم كما لم يسب أهلها لما عظم الله من حرمتها؟ أو هل أقرت للمسلمين؟ فعلى هذا جاء الاختلاف في جواز كرائها في المذهب، فروي عن مالك في ذلك ثلاث روايات؛ أحدها: المنع، والثانية: الإباحة، والثالثة: كراهية كرائها في أيام الموسم خاصة.

.مسألة ذكر الحج في القرآن:

قال مالك: الحج كله في كتاب الله تعالى، والصلاة، والزكاة، ليس لها في كتاب الله تفسير، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين ذلك.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول مالك هذا أن الحج كله في كتاب الله تعالى مفسر، وأن الصلاة والزكاة ليستا مفسرتين فيه، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو فسرهما، وليس ذلك بصحيح، بل ما أتى من ذكر الحج في القرآن مفتقر إلى بيان، والتفسير الذي فسره به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبين مراد الله فيه قولا وعملا، كافتقار الصلاة والزكاة إلى ذلك سواء، ولو تركنا وظاهر ما في القرآن من أمر الحج، لما صح لنا منه امتثال أمر الله عز وجل به، إذ لم يبين فيه شيئا من صفة عمله وترتيبه في أوقاته التي لا تصح إلا فيها، وشرائطه التي لا تتم إلا بها، وسنته التي لا يكتمل إلا بها، فليس الكلام على ظاهره، وإنما معناه الذي أراده به أن الحج كله في كتاب الله تعالى، والصلاة والزكاة، تم الكلام هاهنا.
ثم ابتدأ فقال: ليس لها- أي لجميع ذلك في كتاب الله تعالى- تفسير، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين ذلك، ويبين تأويلنا هذا ما في كتاب ابن المواز من قوله: وكذلك الحج والزكاة تدل وجوبهما في القرآن مجملا، وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أراد الله منه وفسره، وقوله في الرواية أيضا ليس لها، ولم يقل لهما، وقد نقل ابن أبي زيد هذه الرواية بالمعنى على ظاهرها نقلا غير صحيح، فقال فيها: الحج كله في كتاب الله سبحانه، وأما الصلاة والزكاة فذلك مجمل فيه، ولهذا وشبهه رأي الفقهاء قراءة الأصول أولى من قراءة المختصرات والفروع.

.مسألة رمي الجمار:

وسئل مالك عن قول الله سبحانه: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]، قال: هو رمي الجمار، قال: ومن كلام أن يسموا العقل النذر، يريدون بذلك العود، وقال سحنون: يريد بالعقل عقل الجراح.
قال محمد بن رشد: إنما تأول مالك رَحِمَهُ اللَّهُ أن مراد الله بقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] هو رمي الجمار من أجل أن الوفاء بالشيء لا يكون إلا بإكماله إلى آخره، ورمي الجمار هو آخر عمل الحج مع الطواف الذي ذكره الله معه فقال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، واستدل على ذلك بأن العرب تسمي العقل نذرا، وهو العدد الذي يجب في الجراح، يريد بذلك رمي الجمار، سماه الله نذرا؛ لأنه عده واجب رميه في الحج.

.مسألة يفيض من منى إلى البيت فيطوف طواف:

وسألته عن الذي يفيض من منى إلى البيت، فيطوف طواف الإفاضة، ثم يريد أن يتنفل طوافا أو طوافين بعد ذلك، قال: ما هو من عمل الناس، وإني لأرجو أن يكون خفيفا، وكأني رأيته يرى أن ترك ذلك أعجب إليه.
قال محمد بن رشد: رأى مالك ترك التنفل بالطواف إثر طواف الإفاضة أحسن من التنفل به، إذ لم يدرك الناس إلا على ذلك، ولأن الاختيار أن يعجل الإفاضة يوم النحر قبل الزوال، ثم يرجع إلى منى فيصلي بها الظهر كما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والوقت لا يتسع للتنفل بالطواف، وقد كان روي عن النخعي أنه قال: كانوا يستحبون الإفاضة يوم النحر، وأن يطوفوا يوم النحر ثلاثة أسابيع، وقول مالك أولى لما قدمناه، وقد روي «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يفض إلا في آخر يوم النحر».

.مسألة التلبية على الصفا والمروة:

وسئل عن التلبية على الصفا والمروة، قال: لا بأس في ذلك في الحج، ولا يلبي أحد عليهما في العمرة، أحرم من ميقاته، أو من التنعيم، أو من الجعرانة؛ لأن التلبية تنقطع إذا أحرم من ميقاته إذا دخل الحرم، وينقطع إذا لم يحرم من ميقاته إذا دخل المسجد.
قال محمد بن رشد: قوله: لا بأس أن يلبي في الحج على الصفا والمروة، يدل على أن الأحسن عنده ألا يفعل، فهو مثل ما في المدونة من أنه استحب للحاج أن يقطع التلبية إذا بدأ بالطواف حتى يفرغ من السعي بين الصفا والمروة، ثم يعود إليها حتى يروح يوم عرفة بعد الزوال إلى المسجد، أو إلى الموقف على اختلاف قوله في ذلك؛ لما رواه عن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ من أنه كان يقطع التلبية في الحج إذا انتهى إلى الحرم، حتى يطوف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم يلبي حتى يغدو من منى إلى عرفة، فاختار فعله في ترك التلبية في الطواف والسعي، ولم يختر قوله في قطعها أولا إذا انتهى إلى الحرم، ولا في قطعها آخرا إذا غدا من منى إلى عرفة، فقال: إنه يلبي حتى يبدأ بالطواف، ثم يلبي بعد تمام السعي حتى تزول الشمس يوم عرفة، أو حتى يروح إلى المسجد، أو حتى يروح إلى الموقف، وقد روى ابن وهب عنه أنه لا يقطعها حتى يقف بالموقف، وإلى عرفة ينتهى إلى غاية الملبى؛ لأن هنا دعا إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس إلى الحج، ومن حكم المدعو أن يجيب الداعي حتى يصل إليه، ولا وجه لإجابته إياه إذا انصرف عنه، وقوله في العمرة: إنه يقطع التلبية فيها إذا لم يحرم من ميقاته إذا دخل المسجد، قال في المدونة: وإذا دخل بيوت مكة ذلك واسع كان إحرامه من الجعرانة أو التنعيم، وذهب أبو بكر الأبهري إلى أنه إذا أحرم من الجعرانة قطع إذا دخل بيوت مكة، وإذا أحرم من التنعيم قطع إذا دخل المسجد؛ لأن التنعيم أقرب من الجعرانة، فيتمادى إذا أحرم منه في التلبية حتى يدخل المسجد لقصر تلبيته.

.مسألة أفاض بعد رمي الجمرة فأقام بمكة وكان مريضا ولم يأت منى:

وسئل عن رجل أفاض بعد رمي الجمرة، فأقام بمكة، وكان مريضا، ولم يأت منى ولم يرم أيام الجمار كلها حتى ذهبت أيام منى، قال: أن يهدي بدنة، قيل له: فإن لم يقدر عليها؟ قال: ما استيسر عليه، يريد شاة، فإن لم يجد صام، قيل له: إن قوما قالوا: لو رمى في غير أيام منى، قال: هذا الخطأ البين.
قال محمد بن رشد: هذا مثل قوله في المدونة، أنه من ترك الجمار لعذر أو نسيان أو عمد حتى ذهبت أيام منى يهدي، ولم يختلف قوله في ذلك كما اختلف إذا ترك رمي الجمار في يوم من أيام منى، فرماها في الليل، أو فيما بقي منها، واستحب أن يهدي إذا ترك جمرة العقبة أو الجمار الثلاثة من أيام منى بدنة، وإن ترك جمرتين منها بقرة، وإن ترك واحدة شاة وإن كانت الشاة تجزيه في ذلك كله، وإنما قال: إن الرمي في غير أيام الرمي خطأ؛ لأن الله عز وجل قال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]، يريد رمي الجمار بإجماع أهل العلم، فلما قال تعالى: إن الرمي يكون فيها، وجب ألا يفعل في غيرها إلا بنص أو كتاب أو سنة أو إجماع، وذلك معدوم، ولا يجزي رمي الجمار بالمدر، ولا بالطين اليابس، ولا يجزي إلا بالحصاة، قاله مالك وابن أبي ذيب.

.مسألة المتمتع بالعمرة إلى الحج يموت بعد ما يحرم بالحج بعرفة:

وسئل عن المتمتع بالعمرة إلى الحج، يموت بعد ما يحرم بالحج بعرفة، أو ما أشبه ذلك، أترى عليه هديا؟ قال: من مات من أولئك قبل أن يرمي الجمرة، فلا أرى عليه شيئا، ومن رمى الجمرة، فأرى أن قد وجب عليه الهدي، قال عيسى سألت ابن القاسم عن هديه هل يكون في رأس المال أو في ثلثه؟ قال: بل في رأس المال، وذلك أنه لم يفرط، وقال سحنون: لا يعجبني ما قال، ولا يخرج من ثلثه، ولا من رأس ماله إلا إن شاء الورثة ذلك، ألا ترى أن المال يجب عليه الزكاة، قد عرف ذلك، ثم يموت ولم يفرط في إخراجه أنه إن أوصى بها كانت من رأس المال، وإن لم يوص بها لم تكن في ثلث ولا رأس مال إلا إن شاء الورثة ذلك.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إنه لا يجب عليه الهدي إلا أن يموت بعد الجمرة؛ لأنه إنما يجب بالوقت الذي يتيقن فيه نحره، وهو رمي الجمرة، فإذا مات قبل الوقت الذي يتيقن فيه نحره، فقد مات قبل أن يجب عليه، وإنما قال ابن القاسم: إنه يكون في رأس ماله، وإن لم يوص به، إذا لم يفرط بخلاف الزكاة إليها لم يفرط فيها، ولم يوص بها؛ لأن الهدي لو أهداه لم يخف، إذ من شأنه أن يقلد ويشعر ويساق من الحل إلى الحرام فينحر به، فليس ذلك مما يفعل سرا كالزكاة التي يمكن أن يكون لم يوص بها، من أجل أنه قد أداها سرا من حيث لا يعلمون، وقد قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا} [البقرة: 271] الآية، فلعله قصد إلى ما هو خير له من الاستمرار بأداء زكاته، فتفرقة ابن القاسم بين المسألتين أظهر من مساواة سحنون بينهما، ألا ترى أنهم لا يختلفون في وجوب إخراج الزكاة من الزرع الذي يموت عنه صاحبه، وقد بدا صلاحه، وإن لم يوص بإخراج الزكاة عنه للعلم بأن صاحبه لم يؤد زكاته، وأشهب يرى إخراج زكاة المال الناض على الورثة واجبا، وإن لم يوص الميت بإخراجها، إذا مات عند وجوبها، ولم يفرط، وبالله التوفيق.

.مسألة يعتمر من أفق من الآفاق في أيام التشريق:

وسئل عن الرجل يعتمر من أفق من الآفاق في أيام التشريق، قال: لا بأس بذلك؛ لأن هؤلاء إنما يحلون بعد ذلك، فلا أرى هذا مثل من يعتمر في أخر أيام التشريق من الحاج قبل أن تغيب الشمس، هذا لا يعجبني.
قال محمد بن رشد: جائز لمن لم يحج أن يعتمر في أيام التشريق، والأصل في جواز ذلك حديث أبي أيوب الأنصاري، وهبار بن الأسود؛ إذ قدما على عمر بن الخطاب يوم النحر، وقد فاتهما الحج بإضلال أبي أيوب رواحله، وخطأ هبار بن الأسود العدة، فأمرهما عمر بن الخطاب أن يتحللا من إحرامهما بعمرة، ويقضيا حجهما عاما قابلا، ويهديا على ما وقع من ذلك في الموطأ، فلمن لم يحج من أهل الآفاق أن يهل بعمرة من ميقاته في أيام التشريق، سواء حل منها في أيام التشريق أو بعد أيام التشريق، قاله ابن القاسم في المدونة، فقوله هاهنا وفي المدونة أيضا؛ لأن هؤلاء إنما يحلون بعد ذلك، يريد أيام التشريق ليس بتعليل صحيح، وأما من حج فلا يجوز له أن يعتمر حتى تغيب الشمس من آخر أيام التشريق، والأصل في ذلك حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حين «أمرها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقضاء عمرتها بعد انقضاء حجها»، فإن أهل بعمرة في آخر أيام التشريق قبل أن تغيب الشمس بعد أن رمى وأفاض وحل من إحرامه؛ لزمه الإحرام، قاله في الحج الأول من المدونة، قال في كتاب ابن المواز: ولا يعمل من عمل العمرة شيئا حتى تغيب الشمس، فإن عمل فعمله باطل، وهو على إحرامه، فإن وطئ بعده أفسد عمرته، ووجب عليه قضاؤها بعد تمامها والهدي.
قال محمد بن رشد: والقياس إذا كان قد حل من إحرام الحج، وانعقد إحرام العمرة، أن يصح عملها، قال ابن المواز: وأما إن أحرم بعمرة في اليوم الثاني من أيام التشريق، وإن كان قد تعجل وحل من إحرامه، فلا يلزمه الإحرام.

.مسألة يفيض في آخر أيام التشريق قبل أن تزول الشمس:

وسئل هل رخص لأحد من الحاج أن يفيض في آخر أيام التشريق قبل أن تزول الشمس؟ قال: ليس فيه رخصة.
قال محمد بن رشد: يريد بقوله أن يفيض أن يرجع إلى بلده، فلم ير في ذلك رخصة لأحد من الحاج؛ لأنه إن كان ممن لم يتعجل في يومين فعليه رمي ذلك اليوم، وإن كان قد تعجل في يومين فقد وجب عليه أيضا رميه إذا بقي بمنى ولم ينفر يوم تعجل، ولم يرد بقوله: أن يفيض طواف الإفاضة؛ لأن له أن يمضي إلى مكة لطواف الإفاضة يوم النحر، وأي يوم شاء من أيام منى قبل الزوال وبعده، والتعجيل أفضل، ويرجع إلى منى على كل حال لرمي الجمار، وللمبيت بها، ووقع في بعض الروايات هل رخص لأحد من الحاج أن يعتمر؟ ومعنى ذلك أيضا بين؛ لأن أيام الحج لم تنقض بعد، فلا رخصة لأحد من الحاج أن يعتمر قبل انقضائها، وإن كان ممن تعجل في يومين.

.مسألة أعطى جارية له محرمة إزارا له أن تفليه من القمل وهو محرم:

وسئل عن رجل أعطى جارية له محرمة إزارا له أن تفليه من القمل، وهو محرم، وجاريته محرمة، ففلته وألقت الدواب عنه، قال: أرى أن يفتدي، فقيل له: أيذبح شاة أو يصوم ثلاثة أيام؟ قال: نعم في رأيي، أي ذلك شاء فعل.
قال محمد بن رشد: إنما أوجب مالك عليه الفدية من أجل أنه أماط بذلك عن نفسه الأذى، لا من ناحية ما قتلت من الدواب بأمره، وقد قال يحيى، عن ابن القاسم: إنما قال مالك ذلك احتياطا، ولو أطعم شيئا من طعام أجزأه، والذي قلته هو وجه قول مالك، وإنما كان يجب عليه أن يطعم شيئا من طعام لو لم يكن الإزار له، وقد تأول بعض الناس على مالك من هذه الرواية، ومن قوله في المدونة في المحرم يحلق رأس الحلال: إنه واجب الفدية على من قتل قملا كثيرا، وليس ذلك بتأويل صحيح، أما هذه الرواية، فقد بينا وجهها، وأما مسألة المدونة فوجه إيجاب مالك فيها الفدية هو أنه لما كان الأصل في وجوب الفدية حلق الرأس في القرآن، والسنة حمله على عمومه في رأسه وفي رأس غيره، وقد رأى أصبغ قول مالك في هذه المسألة أفضل من قول ابن القاسم فيها: إنه يطعم شيئا من طعام، وقال سحنون: قول ابن القاسم أفضل.

.مسألة دخل بعمرة فطاف وسعى ثم وطئ قبل أن يحلق:

وسئل عن رجل دخل بعمرة، فطاف وسعى، ثم وطئ قبل أن يحلق، قال: أرى أن يهدي هديا.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف فيه أحفظه في المذهب؛ لقول ابن عباس من نسي من نسكه شيئا، فليهرق دما.

.مسألة يطوف بالبيت فيشك في طوافه:

ومن كتاب أوله شك في طوافه:
مسألة وسئل عن الرجل يطوف بالبيت، فيشك في طوافه، ورجلان معه فيقولان له: لقد أتممت طوافك، قال: أرجو أن يكون خفيفا.
قال محمد بن رشد: خفف مالك هذا في الطواف بخلاف قوله في الصلاة في إعادتها وغيرها، والقياس أنهما في ذلك سواء؛ لأنهما عبادتان مستويتان في أنهما موكولتان إلى أمانة العبد، فوجب أن يستويا في أنه يعمل فيهما على يقينه دون يقين من سواه، أو في أنه يجوز له أن يعمل فيهما على يقين من سواه، وقد روي ذلك عن أشهب، والقول الآخر أظهر، وقد مضى توجيههما في آخر أول رسم، من سماع ابن القاسم، من كتاب الصلاة، ووجه الفرق بينهما أن الحج له تعلق بالمال، وقد شبهه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالدين، فقال للخثعمية: «أرأيت لو كان على أبيك دين، أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى»، فجاز أن تعمل فيه الشهادة كما تعمل في الدين، بخلاف الصلاة التي لا تعلق لها بالمال، وقد نص النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: أن المصلي يعمل فيها على يقينه.

.مسألة المحرم يكثر عليه قمل إزاره فيبيعه:

وسئل عن المحرم يكثر عليه قمل إزاره، فيبيعه لموضع ما فيه من القمل، قال: لا بأس بذلك، قال سحنون: إذا باعه أليس قد عرضه للقتل؟
قال محمد بن رشد: أجاز له مالك بيع إزاره، لموضع ما فيه من القمل، كما يجوز له أن يتركه ويلبس غيره؛ إذ ليس عليه أن يتمادى على لباس الثوب الذي أحرم فيه إلى آخر إحرامه، ورأى سحنون أنه إذا باعه، فقد عرض القمل للقتل كما لو طرد صيدا من الحرم إلى الحل، وليس هو مثله؛ لأنه إذا طرد الصيد من الحرم إلى الحل، فقد أخرجه من مأمن إلى غير مأمن؛ لأنه كان في مكان لا يصاد فيه، فأخرجه إلى مكان يصاد فيه، والقمل الذي في الثوب حكمه قبل البيع كحكمه بعد البيع في جواز قتله لمن ليس بمحرم، وليس على من صار القمل في ثوبه أن يمنع الناس من قتله، إنما عليه ألا يقتله ولا يأمر من يقتله، ألا ترى أن من أحرم وبيده صيد يرسله في الحل، وليس عليه أن يمنع الناس من صيده، ولم ير مالك بيعه ثوبه لمكان ما فيه من القمل مميطا عن نفسه الأذى، بخلاف المسألة التي في الرسم الذي قبل هذا، والفرق بينهما أنه فعل هاهنا ما يجوز له من بدل ثوبه، وهناك ما لا يجوز من إلقاء القمل عنه.